فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{هَلْ أَتَاكَ حديث الغاشية}
قيل هل بمعنى قد وقد ظاهر كلام قطرب حيث قال أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية والمختار أنه للاستفهام وهو استفهام أريد به التعجيب مما في حيزه والتشويق إلى استماع والاشعار بأنه من الأحاديث البديعة التي حقها أن تتناقلها الرواة ويتنافس في تلقنها الوعاة وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون قال: «مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ {هَلْ أَتَاكَ حديث الغاشية} فقام عليه الصلاة والسلام يستمع ويقول نعم قد جاءني» و{الغاشية} القيامة كما قال سفيان والجمهور وأطلق عليها ذلك لأنها تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأهوالها وقال محمد بن كعب وابن جبير هي النار من قوله تعالى: {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} وقوله سبحانه: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [إبراهيم: 50] [الأعراف: 41] وليس بذاك فان ما سيرى من حديثها ليس مختصاً بالنار وأهلها بل ناطق بأحوال أهل الجنة أيضًا.
{وُجُوهٌ يومئِذٍ} المرفوع مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لوقوعه في موضع التنويع وقيل لأن تقدير الكلام أصحاب وجوه والخبر ما بعد والظرف متعلق به والتنوين عوض عن جملة اشعرت بها الغاشية أي يوم إذ غشيت والجملة إلى قوله تعالى: {مبثوثة} استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ من الاستفهام التشويقي كأنه قيل من جهته عليه الصلاة والسلام ما أتاني حديثها ما هو فقيل {وُجُوهِ} إلخ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن أتاه صلى الله عليه وسلم حديثها فأخبره سبحانه عنها فقال جل وعلا {وجوه يومئذ خاشعة} والمراد بـ: {خاشعة} ذليلة ولم توصف بالذل ابتداء لما في وصفها بالخشوع من الإشارة إلى التهكم وإنها لم تخشع في وقت ينفع فيه الخشوع وكذا حال وصفها بالعمل في قوله سبحانه: {عاملة} على ما قيل وهو وقوله تعالى: {ناصبة} خبران آخران لـ: {وجوه} إذ المراد بها أصحابها وفي ذلك الاحتمالات أخر ستأتي إن شاء الله تعالى أي عاملة في ذلك اليوم تعبة فيه وذلك في النار على ما روى عن ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة وعملها فيها على ما قيل جر السلاسل والأغلال والخوض فيها خوض الإبل في الوحل والصعود والهبوط في تلالها ووهادها وذلك جزاء التكبر عن العمل وطاعة الله تعالى في الدنيا.
وعن زيد بن أسلم أنه قال أي {عاملة} في الدنيا {ناصبة} فيها لأنها على غير هدى فلا تمرة لها إلا النصب وخاتمته النار وجاء ذلك في رواية أخرى عن ابن عباس وابن جبير أيضًا.
والظاهر أن الخشوع عند هؤلاء باق على كونه في الآخرة وعليه فيومئذ لا تعلق له بالوصفين معنى بل متعلقهما في الدنيا ولا يخفى ما في هذا الوجه من البعد.
وظهور أن العمل لا يكون في الآخرة بعد تسليمه لا يجدي نفعاً في دفع بعده وقال عكرمة {عاملة} في الدنيا {ناصبة} يوم القيامة والظاهر أن الخشوع على ما مر ولا يخفى ما في جعل المحاط باستقباليين ماضوياً من البعد وقيل الأوصاف الثلاثة في الدنيا والكلام على منوال:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

أي ظهر لهم يومئذ أنها كانت {خاشعة} {عاملة} {ناصبة} في الدنيا من غير نفع وأما قبل ذلك اليوم فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وهؤلاء النساك من اليهود والنصارى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس ويشمل غيرهم مما شاكلهم من نساك أهل الضلال وهذا الوجه أبعد من أخويه.
وقوله تعالى: {تصلى نَاراً حامية} متناهية في الحر من حميت النار إذا اشتد حرها خبر آخر لوجوه وقيل {خاشعة} صفة لها وما بعد أخبار وقيل الأولان صفتان والأخيران خبران وقيل الثلاثة الأول صفات وهذه الجملة هي الخبر والكل كما ترى وجوز أن يكون هذا وما بعده من الجملتين استئنافاً مبيناً لتفاصيل أحوالها.
وقرأ ابن كثير في رواية شبل وحميد وابن محيصن {عاملة ناصبة} [الغاشية: 3] بالنصب على الذم.
وقرأ أبو رجاء وابن محيصن ويعقوب وأبو عمرو وأبو بكر {تصلى} بضم التاء.
وقرأ خارجة {تصلى} بضم التاء وفتح الصاد مشدد اللام للمبالغة.
{تسقى مِنْ عين ءآنية} بلغت أناها أي غايتها في الحر فهي متناهية فيه كما في قوله تعالى: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آن} [الرحمن: 44] وهو التفسير المشهور وقد روى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقال ابن زيد أي حاضرة لهم من قولهم أنى الشيء حضر وليس بذاك.
{لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضريع} بيان لطعامهم أثر بيان شرابهم والضريع كما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس الشبرق اليابس وهي على ما قال عكرمة شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض وقال غير واحد هو جنس من الشوك ترعاه الإبل رطباً فإذا يبس تحامته وهو سم قاتل قال أبو ذؤيب: رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوي ** وصار ضريعاً بان عنه النحائص
وقال ابن غرارة الهذلي يذكر إبلاً وسوء مرعى:
وحبسن في هزم الضريع فكلها ** حدباء دامية اليدين حرود

وقال بعض اللغويين الضريع يبيس العرفج إذا انحطم وقال الزجاج نبت كالعوسج وقال الخليل نبت أخضر منتن الريح يرمى به البحر والظاهر أن المراد ما هو ضريع حقيقة وقيل هو شجرة نارية تشبه الضريع وأنت تعلم أنه لا يعجز الله تعالى الذي أخرج من الشجر الأخضر ناراً أن ينبت في النار شجر الضريع نعم يؤيد ما قيل ما حكاه في البحور الزاخرة عن البغوي عن ابن عباس يرفعه «الضريع شيء في النار شبه الشوك أمر من الصبر وأنتن من الجيفة وأشد حراً من النار» فإن صح فذاك وقال ابن كيسان هو طعام يضرعون عنده ويذلون ويتضرعون إلى الله تعالى طلباً للخلاص منه فسمي بذلك وعليه يحتمل أن يكون شجراً وغيره وعن الحسن وجماعة أنه الزقوم وعن ابن جبير أنه حجارة في النار وقيل هو واد في جهنم أي ليس لهم طعام إلا من ذلك الموضع ولعله هو الموضع الذي يسيل إليه صديد أهل النار وهو الغسلين وعليه يكون التوفيق بين هذا الحصر والحصر في قوله تعالى: {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36] ظاهراً بأن يكون طعامهم من ذلك الوادي هو الغسلين الذي يسيل إليه وكذا إذا أريد به ما قاله ابن كيسان واتحد به وقد يتحد بهما عليه أيضًا الزقوم واتحاده بالضريع على القول بأنه شجرة قريب وقيل في التوفيق إن الضريع مجاز أو كناية أريد به طعام مكروه حتى للإبل وغيرها من الحيوانات التي تلتذ رعي الشوك فلا ينافي كونه زقوماً أو غسلينا وقيل إنه أريد أن لا طعام لهم أصلاً لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الناس كما يقال ليس لفلان ظل إلا الشمس أي لا ظل له وعليه يحمل قوله تعالى: و{لا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36] وقوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الاثيم} [الدخان: 43، 44] فلا مخالفة أصلاً وقيل إن الغسلين وهو الصديد في القدرة الإلهية أن تجعله على هشية الضريع والزقوم فطعامهم الغسلين والزقوم اللذان هما الضريع ولا يخفى تعسفه على الرضيع.
وقد يقال في التوفيق على القول بأن الثلاثة متغايرة بالذات أن العذاب ألوان والمعذبون طبقات فمنهم أكلة لزقوم ومنهم أكلة الغسلين ومنهم أكلة الضريع {لكل باب منهم جزء مقسوم}.
{لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جوع} إما في محل جر صفة لـ: {ضريع} والمعنى أن طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس وإنما هو شوك والشوك مما تراعاه الإبل وتتولع به وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه ومنفعتنا الغذاء منتفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة القوة والسمن في البدن وإن شئت فقل إنه من شيء مكروه يضرع عنده ويتضرع إلى الله تعالى ويطلب منه سبحانه الخلاص عنه وليس فيه منفعتنا الغذاء أصلاً وأما في محل رفع صفة لطعام المقدر إذ التقدير ليس لهم طعام إلا طعام من ضريع والمعنى قريب مما ذكر ولا يجوز كونه صفة للمذكور إذ لا يدل حينئذ على أن طعامهم منحصر في الضريع بل يدل على أن ما لا يسمن ولا يغني من طعامهم منحصر فيه ويفسد المعنى وأما لا محل له من الإعراب على أنه مستأنلف والأول أظهر ويروى أن كفار قريش قالوا لما سمعوا صدر الآية إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت {لاَّ يُسْمِنُ} إلخ قيل فلا يخلوا أما أن يتذكبوا ويتعنتوا بذلك وهو الظاهر فيرد قولهم بنفي السمن والشبع وأما أن يصدقوا فيكون المعنى أن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو غير مسمن ولا مغن من جوع وعلى الأول هو صفة مؤكدة رداً لما زعموه لا كاشفة إذ لا خفاء وعلى الثاني هو صفة مخصصة وأياً ما كان فتنكير الجوع للتحقير أي لا يغنى من جوع ما وتأخير نفي الإغناء منه لمراعاة الفواصل والتوسل به إلى التصريح بنفي كلا الأمرين إذ لو قدم لما احتيج إلى ذكر نفي الاسمان ضرورة استلزام نفي الإغناء عن الجوع إياه ولذلك كرر لا لتأكيد النفي وفي (الإرشاد) أن نفي الأمرين عنه ليس على أن لهم استعداداً للشبع والسمن إلا أنه لا يفيد شيئاً منهما بل على أن لا استعداد من جهتهم ولا إفادة من جهتهم وتحقيق ذلك أن جوعهم وعطشهم ليسا من قبيل ما هو المعهود منهما في هذه النشأة من حالة عارضة للإنسان عند استعداء الطبيعة لبدل ما يتحلل من البدن مشوقة له إلى المطعوم والمشروب بحيث يلتذ بهما عند الأكل والشرب ويستغنى بهما عن غيرهما عند استقرارهما في المعدة ويستفيد منهما قوة وسمناً عند انهضامهما بل جوعهم عبارة عن اضطرارهم عند اضطرام النار في أحشائهم إلى إدخال شيء كثيف يملؤها ويخرج ما فيها من اللهب وأما أن يكون لهم شوق إلى مطعوم ما والتذاذ به عند الأكل واستغناء به عن الغير واستفادة قوة فهيهات وكذا عطشهم عبارة عن اضطرارهم عند أكل الضريع والتهابه في بطونهم إلى شيء مائع بارد ليطفؤه من غير أن يكون لهم التذاذ بشربه أو استفادة قوة به في الجملة وهو المعنى بما روى أنه تعالى يسلط عليهم الجوع بحيث يضطرون إلى أكل الضريع فإذا أكلوه سلط عليهم العطش فاضطروا إلى شرب الحميم فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم أعاذنا الله تعالى وسائر المسلمين من ذلك انتهى.
وهو خلاف الظاهر ومثله لا يقال عن الرأي وليس له فيما وقفنا عليه مستند يؤول لأجله الظواهر فالحق أن لهم جوعاً وعطشاً وشهوة إلى الطعام والشراب كما أن للجائع والعطشان في الدنيا شهوة إليهما لكنهما لهم هناك قد بلغا الغاية بتسليط الله تعالى عز وجل بدون سبب عادي على نحو ما في الدنيا فيضطرون لذلك إلى الضريع والحميم كما يضطر من أفرط فيه الجوع والعطش في الدنيا إلى تناول الكريه البشع من المطعوم والمشروب لكنهم لا ينتفعون بما يتناولونه بل يزدادون به عذاباً فوق العذاب نسأل الله تعالى العفو والعافية بمنه وكرمه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{هَلْ أَتَاكَ حديث الغاشية (1)}
الافتتاح بالاستفهام عن بلوغ خبر الغاشية مستعمل في التشويق إلى معرفة هذا الخبر لما يترتب عليه من الموعظة.
وكونُ الاستفهام بـ: {هل} المفيدة معنى (قد)، فيه مزيد تشويق فهو استفهام صوري يكنى به عن أهمية الخبر بحيث شأنه أن يكون بلَغ السامع، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وهل أتاك نبؤا الخصم} في سورة ص (21).
وقوله: {هل أتاك حديث موسى} في سورة النازعات (15).
وتقدم هنالك إطلاق فعل الإِتيان على فشو الحديث.
وتعريف ما أضيف إليه {حديث} بوصفه {الغاشية} الذي يقتضي موصوفاً لم يذكر هو إبهام لزيادة التشويق إلى بيانه الآتي ليتمكن الخبر في الذهن كمال تمكُّن.
والحديث: الخبر المتحدَّث به وهو فعيل بمعنى مفعول، أو الخبر الحاصل بحدثان أي ما حدث من أحوال.
وتقدم في سورة النازعات.
و{الغاشية}: مشتقة من الغشيان وهو تغطية متمكنة وهي صفة أريد بها حادثة القيامة سميت غاشية على وجه الاستعارة لأنها إذا حصلت لم يجد الناس مَفراً من أهوالها فكأنها غاشٍ يغشى على عقولهم.
ويطلق الغشيان على غيبوبة العقل فيجوز أن يَكون وصف {الغاشية} مشتقاً منه.
ففهم من هذا أن {الغاشية} صفة لمحذوف يدل عليه السياق وتأنيث {الغاشية} لتأويلها بالحادثة ولم يستعملوها إلا مؤنثة اللفظ والتأنيث كثير في نقل الأوصاف إلى الإسمية مثل الداهية والطامة والصاخة والقارعة والآزفة.
و{الغاشية} هنا: علم بالغلبة على ساعة القيامة كما يؤذن بذلك قوله عقبه {وجوه يومئذ} [الغاشية: 2] أي يوم الغاشية.
{وُجُوهٌ يومئِذٍ خاشعة (2)}:
{وجوه} مبتدأ و{خاشعة} خبر والجملة بيان لـ: {حديث الغاشية} كما يفيده الظرف من قوله: {يومئذ} فإن مَا صدَقَه هو يوم الغاشية.
ويكون تنكير {وجوه} وهو مبتدأ قُصد منه النوع.
و{خاشعة عاملة ناصبة} أخبار ثلاثة عن {وجوه}، والمعنى: أناس خاشعون الخ.
فالوجوه كناية عن أصحابها، إذ يكنى بالوجه عن الذات كقوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27].
وقرينة ذلك هنا قوله بعده: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} إذ جعل ضمير الوجوه جماعة العقلاء.
وأوثرت الوجوه بالكناية عن أصحابها هنا وفي مثل هذا المقام لأن حالة الوجوه تنبئ عن حالة أصحابها إذ الوجه عنوان عما يجده صاحبه من نعيم أو شقوة كما يقال: خرج بوجه غير الوجه الذي دخل به.
وتقدم في قوله تعالى: {وجوه يومئذ مسفرة} الآية في سورة عبس (38).
ويجوز أن يجعل إسناد الخشوع والعمل والنصب إلى {وجوه} من قبيل المجاز العقلي، أي أصحاب وجوه.
ويتعلق {يومئذ} بـ: {خاشعة} قدم على متعلقه للاهتمام بذلك اليوم ولما كانت (إذ) من الأسماء التي تلزم الإضافة إلى جملة فالجملة المضاف إليها (إذْ) محذوفة عُوّض عنها التنوين، ويدل عليها ما في اسم {الغاشية} من لمح أصل الوصفية لأنها بمعنى التي تغشى الناس فتقدير الجملة المحذوفة يوم إذ تغشى الغاشية.
أو يدل على الجملة سياق الكلام فتقدر الجملة: يوم إذ تحدث أو تقع.
و{خاشعة}: ذليلة يطلق الخشوع على المذلة قال تعالى: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل} [الشورى: 45] وقال: {خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة} [المعارج: 44].
والعاملة: المكلفة العَمَل من المشاق يومئذ.
و{ناصبة}: من النصب وهو التعب.
وأوثر وصف {خاشعة} و{عاملة} و{ناصبة} تعريضاً بأهل الشقاء بتذكيرهم بأنهم تركوا الخشوع لله والعمل بما أمر به والنصب في القيام بطاعته، فجزاؤهم خشوع مذلّة، وعمل مشقة، ونصب إرهاق.
وجملة: {تصلى ناراً حامية} خبر رابع عن {وجوه}.
ويجوز أن تكون حالاً، يقال: صَلِيَ يصلَى، إذا أصابه حرُّ النار، وعليه فذكر: {ناراً} بعد {تصلى} لزيادة التهويل والإِرهاب وليُجرَى على {ناراً} وصف {حامية}.
وقرأ الجمهور {تصلى} بفتح التاء أي يُصيبُها صِلْيُ النار.
وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب {تصلى} بضم التاء من أصلاه النار بهمزة التعدية إذا أناله حرَّها.
ووصف النار بـ: {حامية} لإفادة تجاوز حرها المقدار المعروف لأن الحمي من لوازم ماهية النار فلما وصفت بـ: {حامية} كان دالاً على شدة الحمى قال تعالى: {نار اللَّه الموقدة} [الهمزة: 6].
وأخبر عن {وجوه} خبراً خامساً بجملة {تسقى من عين آنية} أو هو حال من ضمير {تصلى} لأن ذكر الاحتراق بالنار يُحضر في الذهن تطلب إطفاء حرارتها بالشراب فجُعل شرابهم من عين آنية.
يقال: أنَى إذا بلغ شدة الحرارة، ومنه قوله تعالى: {يطوفون بينها وبين حميم آن} في سورة الرحمن (44).
وذكر السقي يُخطر في الذهن تطلب معرفة ما يَطْعمونه فجيء به خبراً سادساً أو حالاً من ضمير {تسقى} بجملة {ليس لهم طعام إلا من ضريع}، أي يطعمون طعام إيلام وتعذيب لا نفع فيه لهم ولا يدفع عنهم ألماً.
وجملة: {ليس لهم طعام} إلخ خبر سادس عن {وجوه}.
وضمير {لهم} عائد إلى {وجوه} باعتبار تأويله بأصحاب الوجوه ولذلك جيء به ضمير جماعة المذكر.
والتذكير تغليب للذكور على الإِناث.
والضريع: يابس الشِّبْرِق (بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة وكسر الراء) وهو نبت ذو شَوك إذا كان رطباً فإذا يبس سمي ضريعاً وحينئذ يصير مسموماً وهو مرعى للإِبل ولحُمُر الوحش إذا كان رطباً، فما يعذب بأهل النار بأكله شبه بالضريع في سوء طعمه وسوء مَغبته.
وقيل: الضريع اسم سَمّى القرآن به شجراً في جهنم وأن هذا الشجر هو الذي يسيل منه الغِسلين الوارد في قوله تعالى: {فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين} [الحاقة: 35، 36] وعليه فحرف {مِن} للابتداء، أي ليس لهم طعام إلا ما يخرج من الضريع والخارج هو الغسلين وقد حصل الجمع بين الآيتين.
ووصفُ {ضريع} بأنه {لا يُسمن ولا يغني من جوع} لتشويهه وأنه تمحض للضر فلا يعود على آكليه بسمن يصلح بعض ما التفح من أجسادهم، ولا يغني عنهم دفع ألم الجوع، ولعل الجوع من ضروب تعذيبهم فيسألون الطعام فيُطعمون الضريع فلا يدفع عنهم ألم الجوع.
والسِمن، بكسر السين وفتح الميم: وفرة اللحم والشحم للحيوان يقال: أسمنه الطعامُ، إذا عاد عليه بالسمن.
والإِغناء: الإِكفاء ودفع الحاجة.
و{من جوع} متعلق بـ: {يغني} وحرف {من} لمعنى البدلية، أي غناء بدلاً عن الجوع.
والقصر المستفاد من قوله: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} مع قوله تعالى: {ولا طعام إلا من غسلين} [الحاقة: 36] يؤيد أن الضريع اسم شجر جهنم يسيل منه الغسلين. اهـ.